N7EB NA3REF : خبز الأغنياء وخبز الفقراء بالبلاد التونسية خلال العصر الحديث
24/06/2024 - Mohamed Dhiya Hammoudi
المخطط العام
وضع في الإطار
تقديم
I- خبز البايليك وخبز عسكر البايليك
1- خبز البلاط
2- خبز التموين
II- خبز المنازل
1- خبز المنازل في المجال الريفي
2- خبز المنازل في الحواضر
III- خبز السوق
خلاصة
بيبليوغرافيا
وضع في الإطار
يقوم هذا المقال مقام تقرير يتناول بالدرس مساهمة المؤرخ التونسي جمال بن الطاهر الباحث حول موضوع "الخبز" في المؤلف الجماعي "المغيبون في تاريخ تونس الإجتماعي" لدار بيت الحكمة - قرطاج والذي نسّقه المؤرخ الدكتور الهادي التيمومي.
وتتنزل مساهمة جمال بن الطاهر ببحثه في موضوعات الخبز في إطار مساهمات مجموعة من الباحثين حول جنبات التاريخ المجهري للتونسيين خاصة الإجتماعي منه على طريقة مدرسة الحوليات. فالخبز يمثل المكون الغذائي الأساسي على مائدة التونسيين وأهميته أكسبته منزلة القداسة فعليا ورمزيا. كيف لا وهو رمز الأمن الغذائي للبلاد خاصة في سياق الحقبة الحديثة، حيث أنه إذا توفر للرعايا بسعر في المتناول فذلك لأن البلاد تتكئ على محصولها من الحبوب. أما إذا التجأت إلى استيراد الحبوب يرتفع ثمن الخبز وذلك لا يعكس إلا حالة الأزمة الاقتصادية.
وبناء على ذلك لطالما مثل الخبز شعارا أساسيا ومحركا رئيسيا للكثير من التحركات الإجتماعية سواء في تونس أو في العالم وهو ما جعله كذلك حاضرا في خطابات الدول ويُأخذ بعين الإعتبار في سياساتها تفاديا لتلك التحركات والصدامات الإجتماعية.
تقديم
استهل جمال بن الطاهر بحثه بمقدمة وضعنا بها في إطار المسألة التي يعتزم توجيهنا إليها ألا وهي مسألة الخبز في تونس في الفترة الحديثة أي الفترة التي طَبَعها ضم البلاد التونسية إلى مجال الامبراطورية العثمانية كإيالة. وبمَثَل انثروبولوجي "الإنسان هو ما يأكل"، اضطرنا الباحث للتفكير في مأكل الإنسان كعنصر هام في وجدانيته وفي تشكل هويته. حيث أن غذاءه يكشف بالضرورة عن انتمائه الحضاري والثقافي والاجتماعي ويكشف كذلك عن إمكانياته الاقتصادية وتدبيره لنمط عيشه في سياق آخر.
ولاحظ الباحث أن اهتمام التاريخ بما يأكل الإنسان والذي يندرج ضمن التأريخ للحياة اليومية لم يكن حكرا على المدونين الأوروبيين وما سجلوه عن المأكل في تونس وفق ما يعرف بالتجديد في الكتابة التاريخية خاصة مع إشعاع مدرسة الحوليات، بل إن بعض التونسيين ساهموا كذلك في هذا الصنف من التاريخ المجهري في تونس على غرار ابن أبي دينار القيرواني ومحمد بيرم الخامس.
ولئن اتسم الغذاء التونسي بتنوعه على الرغم من عدم تنوع المكونات التي يصنع منها (كالحبوب)، فهو عصيدة وبازين ومحمص ورشتة وخبز وخاصة كسكسي، إلا أن تركيز الباحث على مسألة الخبز له أبعاد متعددة. فالخبز سياسيا واجتماعيا يعتبر رمزا للفئات الشعبية الثائرة ورمزا للبروليتاريا بالمعجم المعاصر. إنه يذكرنا بثورة الخبز في تونس جانفي 1984 وثورة السميد في الجزائر سنة 1988. والخبز يكنّى ب "العيش" في مصر وهو حسب هذا المقال يمكننا من دراسة الفوارق الاجتماعية في تونس الحديثة. وحسب عنوان البحث ربما نظن أن الباحث عمد إلى تصنيف الخبز في تونس خلال الفترة الحديثة الى قسمين من خبز للأغنياء وخبز للفقراء لكن تصنيفاته تجاوزت هذين البعدين الى الجرد فهو حاول جرد كل أصناف الخبز التي وجدت خلال تلك الفترة ثم نوّع في مقاييس تصنيفها.
I- خبز البايليك وخبز عسكر البايليك :
ويهتم هذا العنصر بنوعين من الخبز، بصفة عامة نوع من "خبز الأغنياء" حسب تعبير جمال بن الطاهر وهو لأفراد العائلة الحاكمة وكل من يعيش في البلاط وسمي عادة بالخبز الأبيض ونوع من "خبز الفقراء" وهو خبز التموين للجيش والعساكر.
1- خبز البلاط :
وبحديثه عن هذا الصنف أشار الباحث إلى أنه قد كان للقصر مخبزته الخاصة والتي سماها "كوشة باردو المعمور" ففئة البلاط لا تستهلك خبز السوق أو الخبز الذي ليس طازجا (أي الخبز البايت).
وإن ما يحدد نوع الخبز وجودته هي طريقة الاعداد والمادة الأولية المكونة له والتي كانت قمحا فقط بالنسبة لخبز البلاط (حسب دفاتر كوشة البايليك). وهو ما يسمى بالخبز الأبيض والذي يعد وفق تقنيات أوروبية ويصنع من السميد الذي تمت غربلته عدة مرات حتى يفقد نخالته التي تحدد لون الخبز.
وعمل هذا الخبز يتطلب تقاسم العمل بين عدة متداخلين، من الكيالة إلى الحمالة إلى الطواحنية إلى الغرابلية إلى الخبازين. وبالتالي نستخلص أن كلفة صنعه باهضة جدا.
وبالإضافة إلى فئة البلاط فإن الخبز الأبيض يمكن أن يقدمه البايليك كذلك لضيوفه خاصة إذا كانوا من مكان بعيد، بل انه تم تقديمه كذلك في مرات عديدة إلى صنف معين من الجند وهم المدفعجية الذين يقومون بحراسة أبراج الحاضرة.
2- خبز التموين :
صنف الباحث هذا النوع ضمن خبز "الفقراء" لأنه رديء. وهو الخبز الذي يزود به العساكر وينقسم بدوره إلى أنواع كثيرة منها خبز البشماط وهو ليس رغيفا بل يقدم في شكل قطع. يترك البشماط في الفرن أكثر من الوقت اللازم حتى يصير يابسا لكي يدوم طويلا قبل أن يتعفن لذلك وجدناه كثيرا عند البحارة والرحالة. ولا يختلف البشماط كثيرا عن الغليظ فهذا الأخير هو أيضا شديد النضج ولكن يختص بشكله الدائري وهو نوعان؛ غليظ سميد وإذا لم يكن سميدا يسمى غليظ جاري.
كذلك من أنواع خبز التموين هنالك الخبز العسكري، نسبة الى العسكر النظامي، حيث أن القمح بعد رحيه يغربل مرتين فقط ويفرز السميد عن الدقيق ثم يعجن السميد بالماء والزيت ويخمر. والخبز حانبة، نسبة إلى الحوانب أو الفرسان حيث أن جل من يمون بهذا الخبز هم الفرسان الحراس ما يسمى بالتحديد ب "عسكر العسة". وهنالك الخبز الأكحل: أسود اللون لعدم غربلة سميد القمح أو لاعتماد الشعير فيه وثم أن القمح القديم كذلك يعطي لونا أسودا.
إن كل أنواع خبز التموين هذه تشترك في ردائتها.
II- خبز المنازل :
ألح جمال بن الطاهر في هذا العنصر على الإشارة إلى المصادر، حيث أن المعلومات حول خبز البلاط وخبز التموين متوفرة نسبيا نظرا لتوفر الوثائق كالمكاتيب والدفاتر والشكايات الخ.. أما المعلومات حول خبز المنازل فهي محدودة ولذلك أشار إلى الالتجاء إلى الروايات الشفوية.
إن خبز المنازل هو ببساطة كل خبز من صنع ربة البيت سواء كانت في المدينة أو في الريف عكس خبز السوق الذي يصنعه الخبازون. ويقتصر تقسيم العمل فيه على الرجل الذي يجلب القمح من الأرض أو من السوق وعلى المرأة التي تطحنه وتغربله.
1- بالنسبة لخبز المنازل في المجال الريفي فهو يتنوع من مكان إلى آخر حسب خاصيات التراث الغذائي لسكان ذلك المكان والذي بدوره تحدده الطبيعة التي يعيشون فيها.
هنالك خبز الطابونة، والتسمية نسبة إلى نوع الفرن الذي يخبز فيه (تسمى التنور بالمشرق). يصنع من القمح أو الشعير أو الذرة حسب المنطقة وهو ذو جودة عالية خاصة السميد منه.
وخبز الكسرة، وهو خبز غير مخمر من صنف الرقاق تصنع من القمح أو الشعير على حد سواء وتنضج في إناء يسمى بالطاجين أو الغناي. والكسرة نوعان، كسرة عادية من الدقيق، وكسرة المطبقة في الجنوب التونسي حيث يضاف إليها الخضروات وأحيانا اللحم وبالتالي فكسرة المطبقة هنا تتجاوز الوظيفة المجردة للخبز وتصبح غذاء كاملا.
وبالحديث عن الجنوب التونسي كذلك نذكر خبز الملة، والتسمية نسبة إلى المكان الذي ينضج فيه فالملة هي الرماد أو التراب المشتعل. حيث تعتمد القبائل الصحراوية على إنضاج الخبز بوضعه مباشرة على الرماد (طريقة بدائية). وغالبا ما يصنع من الشعير لعدم إمكانية إنتاج القمح في الجنوب.
2- أما بالنسبة لخبز المنازل في الحواضر أو ما يسمى بخبز الديار، أشار الباحث إلى أنه مع توفر الطاحونة في الحواضر خلال الفترة الحديثة ومنذ العصور القديمة، لم يبق لمرأة المدينة سوى إعداد العجين وانضاجها. بل إنها أحيانا تلجأ لإنضاجها بأفران السوق (الكوشة) التي توفر منها بحاضرة تونس مثلا خلال منتصف القرن 19 أكثر من عشرين "فرنا".
وأحيانا تنضجه بالفرن المنزلي ما يسمى ب "بيت النار".
إن خبز المنازل سواء كان في الريف او المدينة فهو يتسم غالبا بنضجه وحسنه.
III- خبز السوق :
صنف آخر من أصناف الخبز هذه المرة صنفه الباحث جمال بن الطاهر حسب مجال تداوله أو المكان الذي يتواجد فيه وهو السوق بمعنى مجال اقتصادي عمومي. وخبز السوق هو كل أنواع الخبز التي تصنع بالمخابز لتباع للمستهلكين ويشمل أحيانا بعض أنواع الخبز، كالطابونة، التي تصنعها ربات البيت لكنها تباع في السوق وعادة ما كانت بكميات محدودة.
هذا الصنف من الخبز هو خبز الفئات الشعبية وخبز الفقراء والهامشيين بالمدن والمضطرين له. وهذا النوع بالذات يعد مؤشرا إجتماعيا واقتصاديا خالصا يساعد كثيرا على فهم التطورات والتحولات الاجتماعية والاقتصادية التي طرأت في الفترة الحديثة. إن الإقبال على هذا النوع من الخبز يزداد كلما مرت البلاد بأزمة اقتصادية ويتراجع كلما توفر للفرد الإمكانيات اللازمة ليصنع خبزه بالبيت ويحقق نوعا من الاستقلال الغذائي عن السوق. فمسألة الخبز تختلف بين سنوات الرخاء وسنوات الأزمة.
خلاصة
إن المثير في مسألة الخبز في تونس خلال الفترة الحديثة هو أن هذا العنصر الغذائي الحيوي والأساسي في وجود الإنسان عبر التاريخ يخدمنا كذلك كمؤشر ذكي لفهم المجال الحضاري والثقافي والاجتماعي للإنسان. فإننا عندما نتحدث عن خبز بمكونات الأرض التي يعيش في مجالها أفراد ما (خبز قمح وخبز شعير)، وعن خبز يعد بتقنيات مستمدة من الطبيعة التي يعيش بها أفراد ما (طابونة لدى سكان الجبال وغناي لدى الرحل وملة لدى الصحراويين)، وعن خبز يتاح لفئة دون غيرها.. فإننا ندرس أنثروبولوجيا مدى قدرة الإنسان على تكيفه مع الطبيعة التي تحتويه ومدى مهارته في تدبير مجاله من خلال مهارته في تدبير خبزه وغذائه. وهو في بعض الأحيان قادر وفي أحيان أخرى عاجز إما أمام غضب الطبيعة أو في مواجه لعنة الطبقية الاجتماعية التي تختاره نوع خبزه غصبا عنه.
بيبليوغرافيا
بن الطاهر، جمال: « خبز الأغنياء و خبز الفقراء بالبلاد التونسية خلال العصر الحديث » ، في "المغيبون في تاريخ تونس الاجتماعي"، مؤلَّف جماعي تنسيق د. الهادي التيمومي، بيت الحكمة، تونس، 1994، ص ص 182-224.
بقلم م. ضياء حمودي
ناشط مناصر للبيئة وطالب باحث في علم
المجال والمجتمع والذاكرة في التاريخ