تمهيد
على اعتبار ان العالم او ما اصطلح على تسميته ب "السلطة الرابعة" هو العمود الفقري إلى مجتمع ديمقراطي، يقوم على مبادىء الحرية والتعددية والتنوع. فالعالم الحر و النزيه و المستقل عن السلطة هو قاطرة الدول في الكشف عن الملفات الحارقة و ملفات الفساد الضخمة ، و هو الذي ينقل الواقع الاجتماعي كما هو بمساوئه و مشاكله بلا تحريف ولا انحياز1
تقوم السلطة الرابعة على جملة من المبادئ منها الحياد والتجرد والموضوعية، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يوجد إعلام بدونه2 . بيد أن العالم الغربي كثيرا ما يضرب بكل هذه المبادئ عرض الحائط في سبيل تبييض صورة الكيان المحتل و تلميع جرائمه في حق الفلسطينيين على مدار الخمسة وسبعين عاما. و من الأساليب التي تلجأ إليها وسائل الإعلام الأمريكية والغربية كما الحظ العديد من المراقبين أسلوب "نزع السياق" او "اخراج الموضوع من إطاره"، بمعنى تصوير هجوم حركة «حماس» كعمل مفاجيء إرهابي وفصله عن السياق التاريخي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وكأن هذا الهجوم لا علاقة له بالحصار غير القانوني للقطاع لمدة 16 عاما كالتحكم في المعابر البرية ومراقبة الحدود البحرية، التحكم في كمية ونوعية المواد الداخلة للقطاع، منع إدخال مواد البناء، التحكم بمصادر الطاقة من كهرباء وماء وشبكة اتصالات، ولا بالحروب التي دمرت القطاع خمس مرات وخلفت آلاف الضحايا من نساء واطفال ، لا علاقة له بتأسيس الكيان المحتل ( أو المختل ان صح التعبير، فالجرائم المرتكبة اليوم في حق الفلسطينيين من قصف لمنازل المدنيين قنص المرضى و الحوامل في باحات المستشفيات واستهداف الأطباء والطواقم الطبية وسيارات الإسعاف، تدمير شبه كلي للبنية التحتية الصحية، الدوس بالجرافات 90 على أجساد المرضى واللاجئين وتشويه الموتى تدنيس المقابر. استهداف الصحافيين كالصحافية شيرين ابو عاقلة التي قتلت على ايدي الجيش الصهيوني و وائل ممدوح الصحافي الباسل الذي لم يكفهم استهداف كامل عائلته من زوجته وأبنائه وحفيده و حتى أقاربه، فاستهدفوه بصفة خاصة، وهو ما دفع الاتحاد الدولي للصحافيين و منظمة صحفيون بلا حدود للتنديد واللجوء للتتبع الجزائي لقيادات الجيش الصهيوني، كل هذا يدل عن نفسية مريضة و نزعة اجرامية متاصلة سواء بالنسبة لمسدي أوامر القتل من قيادات عسكرية وسياسية أو المأمورين)، و نكبة الفلسطينيين التي تسببت بتهجير جزء كبير من سكان غزة من قراهم وبلداتهم ومدنهم ومنازلهم، ولا بالتهجير القسري للسكان، ولا بهدم المنازل على رؤوس سكانها، ولا بإقامة حواجز عسكرية وأمنية في منع مستمر للسكان الأصليين في ممارسة حقهم في التنقل والسفر، ولا بحملات الاعتقال والمحاكمات العسكرية دون أي احترام لمبادئ المحاكمة العادلة و حق الدفاع وقرينة البراءة.
فالفلسطينيون يعيشون تمييزا على أساس الدين والعرق على مستوى السكن التنقل السفر العمل، التجارة، ممارسة حق الدفاع، التسلح الجباية، حقوق الطفل الصحة ... وذلك على امتداد خمسة وسبعين سنة. ويزيد من حدته التفصي من العقاب للمجرمين الصهاينة و تعتيم اعلامي رهيب من كبرى المحطات الاخبارية العالمية، والتي يتحكم فيها و يمولها و يقرر خطها التحريري الرأسمال (اللوبي الصهيوني المتحكم في مراكز القرار في دول الغرب. ( و أبرز مثال على ذلك منظمة ايباك Aipak الواقع تأسيسها سنة 1961. وهي لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية والمتمثلة في مجموعة ضغط تدافع عن السياسات المؤيدة للكيان المحتل لدى السلطتين التشريعية والتنفيذية للواليات المتحدة. وهي إحدى منظمات الضغط العديدة المؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة، وتقول أيباك أن لديها أكثر من 100.000 عضو و 17 مكتبا إقليميا ومجموعة كبيرة من المانحين بالإضافة إلى ذلك المنظمة معروفة على نطاق واسع بأنها إحدى مجموعات الضغط الأكثر تأثيرا في الولايات المتحدة الأمريكية.)3
كما يعتمد الإعلام الية التعتيم. فهذه الآلية تقوم على حجب المعلومة عن الجمهور لتفادي أي انحياز شعبي للقضية الفلسطينية. و يتجلى التعتيم الإعلامي من عدم استضافة ضيوف مدافعين عن القضية الفلسطينية أو استضافتهم و عدم منحهم الوقت الكافي للجواب و الضغط عليهم لاظهارهم بمظهر سيئ أمام الجمهور مثلما حصل مع المذيعة البريطانية جوليا هارتلي برورJulia) Hartley - Brewer) و التى أهانت على الهواء مباشرة مصطفى البرغوثي الطبيب و السياسي الفلسطيني و مؤسس المبادرة الوطنية الفلسطينية، واتهمته علنا بمعاداة النساء باعتباره عربيا.
و هذه الحادثة ليس إلا غيث من فيض من الانحطاط الاخلاقي والغطرسة الاعلامية الغربية وتشويه صورة كل ما هو عربي او اسلامي او عربي إسلامي .
و كمثال آخر، أعلنت كبرى قنوات الاخبار الغربية مثل BFM tv الفرنسية، sky news الأمريكية، BBC البريطانية مقاطعتها لجلسة استماع محكمة العدل الدولية في إطار القضية المرفوعة من جنوب افريقيا ضد الكيان الصهيوني و الواقع اتهامه فيها بجرائم ابادة جماعية. وذلك في مخالفة واضحة وجلية لابسط مبادىء العمل الصحفي و القاضية بأن "نقل الخبر مقدس و التعليق حر".
و الغريب في الأمر هو وجود عدة وسائل اعلام عربية ذات خط تحريري مناوىء للقضية الفلسطينية (فبعض الدول الخليجية تعتبر حماس حركة اخوانية لابد من تشويهها و القضاء عليها، فبنجاحها سيؤثر ذلك على الشباب العربي و يدفعه للجهاد في فلسطين وتبني القيم الإسلامية، فالدول التي لا تجرم مساندة فلسطين في الخليج العربي هي عمان الكويت وقطر. وعلى العكس من ذلك، كل من يساند الفلسطينيين جهرا في السعودية، البحرين، الامارات يكون عرضة للتنكيل والاعتقال والتضييق من قبل السلطات).
فبعض وسائل إعلام هذه الدول تعتمد المغالطة و التحكم la manipulation في سبيل تشويه المقاومة. من ذلك اعتماد مصطلح "القتلى الفلسطينيين" عوض "الشهداء الفلسطينيين"، "دولة اسرائيل" عوض "الكيان الغاصب"، "مسلحين" عوض مقاتلي/مجاهدي حماس ، في محاولة رخيصة ودنيئة للحد من التعاطف الشعبي مع المقاومة و تشويهها و التطبيع الفكري مع الكيان المحتل.
في النهاية لابد من القول ان المنظومة الاخلاقية و الحقوقية (الاعلان العالمي لحقوق الانسان لسنة 1948، العهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية لسنة 1966 ، اتفاقيات جينيف لسنة 1949 و البروتوكولان الإضافيان لها لسنة 1977 و المتعلقة بحماية المدنيين والعسكريين في البر و البحر و اسرى الحرب والنساء والأطفال زمن الحرب بقيت حبرا على ورق) والإعلامية الدولية التي تلت الحرب العالمية الثانية سقطت سقوطا مدويا و ازدواجية التعامل مع الحرب الروسية الأوكرانية بالمقارنة مع معركة التحرر الوطني الفلسطينية أكبر مثال على ذلك، لكن كانت ولازالت وستبقى فلسطين من النهر الى البحر.
و كما قال الشاعر التونسي ابن مدينة توزر أبو القاسم الشابي :
إِذا الشَّعْبُ يوماً أرادَ الحياةَ
فلا بُدَّ أنْ يَسْتَجيبَ القدرْ
ولا بُدَّ للَّيْلِ أنْ ينجلي
ولا بُدَّ للقيدِ أن يَنْكَسِرْ
بقلم صفوان العوني
باحث في القانون الجنائي
اليوم العالمي لحرية الصحافة : بيان المفوض السامي، الموقع الرسمي لمنظمة الأمم المتحدة، 2 ماي ،2023 تاريخ الدخول :15 جانفي 2024 ، 20:13 https://www.ohchr.org/ar/statements-and-speeches/2023/05/world-press-freedom-day-high-commissioner-statement
الاتجاهات العالمية في حرية التعبير وتطوير وسائل االعالم، الموقع الرسمي لمنظمة اليونسكو. 20 جانفي 2024 ، 18:16 https://www.unesco.org/ar/world-media-trends
الموقع الرسمي لمنظمة إيباك، 22 جانفي 2024 12:31